هل أتاك حديث مادوف وبلاغوجيفيتش؟
هل أتاك حديث مادوف وبلاغوجيفيتش؟
برنارد مادوف هو ابن وول ستريت البار. أسس سنة 1960 شركة برنارد مادوف للاستثمار عندما كان في الثانية والعشرين من عمره وكان رأسماله حينئذٍ 5000 دولار. بقي مادوف رئيس مجلس إدارة هذه الشركة حتى 11 ديسمبر 2008 حينما ذهب وأخبر أولي الأمر أن شركته كانت تمارس الخداع والغش والكذب خلال سنوات عملها، وكان قد أخبر بعض مديريه الشيء نفسه قبل يوم من افصاحه عن سوء أمره قائلاً : “كان الأمر كله كذبة كبرى”. وصل مادوف إلى أعلى المراكز في وول ستريت بما في ذلك رئاسة مجلس إدارة ناسداك Nasdaq أهم سوق مالي لشركات التكنولوجيا في العالم لعدة سنوات. كان لآخر أيامه ممن يسمون في وول ستريت “صناع السوق”. (خسائر) مادوف كانت 50 مليار دولار أي 000.000.000.50 دولار عداً ونقداً !!!... وما كادت الفضيحة أن تنكشف حتى أفصحت العديد من البنوك العالمية داخل الولايات المتحدة وخارجها في بريطانيا، وإسبانيا، وفرنسا، وايطاليا وهولندا وغيرها انها قد أصابتها خسائر جسيمة لأنها كانت تستثمر مع مادوف. كان مادوف، حسب صحافة وإعلام وول ستريت رجلاً تقياً نقياً طاهراً ورعاً، حيث أنه كان يكثر أعمال الخير خصوصاً للمؤسسات اليهودية و”اسرائيل”.... بل وكان في مجلس امناء إحدى الجامعات اليهودية.
حسب ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية AFP في 18/12/2008 فلقد ظهر على الإنترنت طوفان من الرسائل “المعادية للسامية” (وهنا نضع معادية السامية بين قوسين). قالت وكالة الأنباء هذه بأن “مادوف، ذا السبعين عاماً، يهودي الديانة، وعضو بارز في الجالية اليهودية الأمريكية ذات النفوذ القوي”. ثم تقتبس الوكالة ما قالته “رابطة الدفاع ضد التمييز” اليهودية ADF عن هذا الموضوع : “قام البعض بكتابة تعليقات بالغة الإهانة عن علاقة اليهود والمال حتى أن بعضهم قال إنه لا يستطيع أحد القيام بعملية غش كهذه إلاّ اليهود كما أن آخرين ادعوا (في نظريات مؤامرة) بأن سرقات اليهود هذه انما هي لمساعدة “إسرائيل””. واستطرد الناطق باسم رابطة ADL أنه حتى بعض الجرائد، وليس مواقع الإنترنت فقط، كانت من اولئك الذين انضموا إلى تلك الحملة ومنهم نيويورك بوست، ومجلة “فوربس”. لكن الغريب أن مواقع جريدة “هآرتس” و”الجيروسالم بوست” كانا ضمن تلك المواقع التي ورد فيها مثل هذه الاتهامات “اللاسامية”. إذن مهاجمة الغش والخداع والسرقة هي (لا سامية) و(نظرية مؤامرة) حتى ولو كان على موقع جريدة “إسرائيلية”! أليس هذا هو الابتزاز بعينه؟؟
بينا في هذا الكتاب أن ممارسات أسواق المال منذ كانت هناك أسواق مال هي نفسها، جديدها قديم، وقديمها جديد. بينّا أن الفقاعات الاقتصادية كانت تُمارس حتى قبل 300 سنة، حيث بينا فقاعة شركة بحر الجنوب سنة 1720 والتي يُظّن أنها قد حدثت بالأمس. حتى أن ممارسات مادوف ما هي إلا نسخة طبق الأصل عن ممارسات تشارلز بونزي Charles Ponzi في العشرينات من القرن الماضي.
بدأ بونزي فقيراً معدماً كما كان الحال مع مادوف، إلى أن عمل مع أحد أصحاب البنوك “الفاسدين” في كندا حيث تَعلّم منه آخر علوم النصب، والنصب هو أحد علوم مهنة أسواق المال وأصحابها التي ورثوها أباً عن جد على مدى التاريخ. ما تعلمه هو ما يسمى Pyramid Scams وملخصها الدفع للمستثمرين القدامى من أموال المستثمرين الجدد بناء على مشاريع وهمية. ووَعَد بونزي بدفع فائدة 50% على أي مبلغ استثمار لمدة 90 يوماً فقط. خلال سبعة شهور جمع 30000 مستثمر دفعوا 9 ملايين دولار وهو مبلغ ضخم في تلك الأيام. ذاع صيته في كل مكان. وبعد أن بدأ عملية احتياله وبجيبه دولاران فقط، امتلك قصراً وسيارات فارهة إلى أن تم اكتشاف أمره بعد أن كان ما كان! وهذا ما قام به مادوف... بل هذا ما تقوم به شركات المال وباروناتها العالميون.
إذا كانت أخلاقيات نظام السوق الرأسمالي تسمح ببيع السلع والسياسيين واقتراف الجريمة باعتبارها عمليات سوق لا تخضع لمعايير أخلاقيه، فدعنا نرَ كيف ينطبق ذلك على بيئة شيكاغو وحزبها الديمقراطي الذي أوصلت ماكنته السياسية باراك اوباما إلى أعلى مناصب الدولة.
يقول ديك سمبسون Dick Simpson أستاذ العلوم السياسية بجامعة إلينوي في شيكاغو إن أكثر من ألف شخص قد تم ادانتهم على خلفية جرائم سياسية اقترفت منذ السبعينات من القرن الماضي كان منهم ثلاثون ممن وصلوا إلى مراكزهم عبر صناديق الاقتراع إلى مناصب عامة ومهمة. كان آخر هؤلاء حاكم ولاية إلينوي الحالي (بلاغوجيفيتش Blagojevitch) والذي تم اعتقاله واطلاق سراحه بكفالة في 9/12/2008. وهذا ما نقلته وكالة الأسوشيتيد برس في 24/12/2008: “أوقف بلاغوجيفيتش في التاسع من كانون الأول وأفرج عنه بكفالة. وكشفت نصوص الاتصالات الهاتفية التي نشرها مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي) أنه حاول بيع مقعد سناتور إيلينوي الذي بقي شاغراً بعد انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة. وكشف التنصت على مكالمات حاكم إيلينوي أنه كان غاضباً لأن فريق أوباما لم يقدم له سوى التقدير مقابل تعيين هذه الشخصية أو تلك... ويعود إلى حكام الولايات المتحدة تعيين أعضاء مجلس الشيوخ الذين تصبح مقاعدهم شاغرة، بانتظار الانتخابات المقبلة لمجلس الشيوخ بعد سنتين.
ويُمكن أن يحكم بالسجن على بلاغوجيفيتش المتهم بالاحتيال والفساد والذي يخضع لتحقيق حول قضية أخرى مما يفسر تمكن مكتب التحقيقات الفدرالي من التنصت على اتصالاته بإذن من القضاء”.
إذن، منصب أوباما السابق والذي وصل إليه أوباما عبر ماكينة الحزب الديمقراطي السياسية والتي أوصلت أوباما إلى البيت الأبيض هو الآن معروض للبيع... عدّاً ونقداً، كما بينته تسجيلات مكتب التحقيقات الفدرالي، ولكن أليست هذه حالة فريدة أردنا أن نعمل بها “من الحبة قبّة”؟ يقول البروفيسور سيمبسون إنه حين إدانة الحاكم الحالي ودخوله السجن سيكون أربعة من أصل آخر ثمانية حكام لهذه الولاية قد دخلوا السجن على خلفية الفساد والاختلاس والابتزاز... أربعة من ثمانية تعني 50% - أي النصف. لكن لماذا علينا نحن “أصحاب نظريات المؤامرة” أن ننظر إلى نصف الكوب الفارغ، فهناك نصف ملآن؟ ثم تفاءلوا بالخير تجدوه عند أوباما... وإلاّ فالذي بعده أو الذي بعد الذي بعده ! أوليس من الأفضل أن نحمد الله كثيراً أن بلاغوجيفيتش لم يكن هو الذي وصل إلى الرئاسة الأمريكية؟ لكن هل كان ذلك ممكنا؟
نطالب بالرأفة ل بلاغوجيفيتش، فهو قد لعب ضمن قواعد اللعبة في الرأسمالية الأمريكية كما وصفها الأستاذ ليستر ثورو وكما وصفتها ال “نيوزويك”، لكنه لسوء حظه قد انكشف أمره.
المحزن أن خسائر الدول العربية وخصوصاً الصناديق السيادية لدول النفط العربية قدرت بحوالي 2600 مليار دولار من جامعة الدول العربية، وهو مبلغ يزيد مرة ونصف المرة على جميع موجودات البنوك العربية مجتمعة من المحيط إلى الخليج، بل ويزيد على مجموع الدخل القومي السنوي للدول العربية مجتمعة من المحيط إلى الخليج، بما في ذلك الموارد من النفط والغاز. أما ما قدرته الأمم المتحدة من الخسائر العربية حتى منتصف ديسمبر / كانون الأول 2008 فكان 650 مليار دولار، خمسة في المائة من هذه الخسائر لو تم استثمارها في الزراعة في بلد كالسودان، لأصبح سلة غذاء للعالم العربي بأجمعه، أو 10% من هذه الخسارة كان يمكن أن يقيم قاعدة صناعية حقيقية في هذا البلد العربي أو ذاك. بل كان يمكن بأقل من عشرين في المائة من هذه الخسائر أن تقوم بسداد كافة الديون عن الدول العربية. هذه الخسائر في وقت تعاني شعوب منطقتنا من الجهالة والفقر وفي وقت سيدخل فيه سوق العمالة العربي 80 مليون طالب عمل جديد خلال السنوات العشر المقبلة.
أخو نابليون كتب إلى أخيه ناصحاً: حذار إذا جاعت الجماهير ! سؤالنا : لماذا على دول النفط أن تنتج من النفط أكثر من احتياجاتها للتنمية فتحول هذه المادة الثمينة من كنز ترتفع أسعاره مع الأيام باقياً آمناً تحت أراضيها، إلى أوراق كسندات خزانة في أمريكا أو كاستثمارات عند مادوف ومن على شاكلته؟ ولماذا لا تستثمر هذه الفوائض في بلدانها و/ أو بلدان أشقائها لتصبح ثروة حقيقية منتجة لا أوراق تتآكل لألف سبب وسبب؟ أم أن سؤالنا قد أخطأ العنوان؟ فالجواب في مكان آخر... هناك...!.
ما قاله مادوف عن شركته “كان الأمر كله كذبة كبرى” يمكننا قوله عن النظام كله.
الإصلاح في عالمنا العربي
ليست المشكلة بالآخرين وحدهم، فنحن ما بين فئة قليلة تطابقت مصالحها مع من هم خارج أوطانها أو ممن شغفهم الغرب حباً، وهؤلاء قال عنهم ابن خلدون قبل بضع مئات من السنين بأن “عبودية العقل هي أقسى أنواع العبوديات”، وبين فئة جمدت حضارتنا العظيمة في ثلاجة الزمن البعيد، دون الأخذ بأدوات التحديث والعصر في حضارة حثت على الأخذ بالعلم حتى ولو في الصين.
هل هناك شرق أوسط جديد؟ الجواب نعم، هناك طفل قد يكون اسمه الشرق الأوسط الجديد وقد لا يكون ! وهو - كما قالت عنه كوندوليزا رايس - في مخاض آلام الولادة. هو لن يكون بمواصفات رايس أو شمعون بيريز. لا أدري مَنْ غيرُ الله يدري كيف سيكون هذا الوليد لأنه من أطفال الأنابيب، وهو قادم من رحم قانون “العواقب غير المحسوبة The Law of Unanticipated consequences لا من واشنطن ولا من أحبائها.
ليس للأباطرة أصدقاء ولا صداقات. مات ماركوس في منفاه، وضاقت الأرض بما رحبت لقبرٍ يوارى به جثمان شاه إيران. جندت الولايات المتحدة ألوف المتطوعين البسطاء ليجاهدوا معها ضد الكفار السوفييت في أفغانستان. وبعد أن قضي الأمر، أين أصبح هؤلاء؟ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر في غوانتانامو! ثم أين هو سوهارتو؟ وأما مانويل نورييغا فلقد بدأ حياته مخبراً ثم عميلاً من الدرجة الممتازة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، حيث أوصلته إلى حكم جمهورية بنما. أما اليوم فهو السجين رقم 41586 في أحد سجون ميامي الفيدرالية بولاية فلوريدا”.
الحلقة الثانية
مع أن الناس قد أصبحوا واعين لظاهرة ما أسموه بالعولمة في الربع الأخير من القرن العشرين، إلا أن ذلك كان نتيجة السرعة التي طرأت على عملية وديناميكية العولمة، والتي تسارعت نتيجة تسارع الاكتشافات التكنولوجية في الفضاء، والاتصالات، وتقنية المعلومات. ولقد كانت عملية العولمة بطيئة، تكاد تكون بشكل غير محسوس، إلا أن تسارع الأحداث والاكتشافات قد جعلت ملاحظتها أمراً لا يمكن تجنب رؤيته أو ملاحظة تأثيراته، لأنها قد أصابت دروب الحياة كافة. وما ندعيه هنا أن عملية العولمة كانت عملية تتطور ببطء على مدى التاريخ إلا أنها أخذت وتيرة ثورية في العقود القليلة الماضية.
إن عملية العولمة هي تطور طبيعي، اللهم إلا أن الاختلاف هو في النظم التي تتحكم بها. فهي مثل جهاز الكمبيوتر، المهم ما هو النظام Soft Ware الذي يتم تشغيله على هذا الجهاز. وكما يقال عن الكمبيوتر Garbage in، Garbage out ، أي إذا كانت المدخلات خاطئة، فكذلك ستكون النتائج. وإن مدخلات عولمة الرأسمالية التي تعتمد على الجشع والكذب والمادية المجردة والمضاربات والحروب لا يمكن لمخرجاتها إلا أن تكون ما نرى عالمنا عليه أيامنا هذه.
قبل أكثر من مائة وخمسين سنة، وتحديداً في سنة 1848 نظّر كارل ماركس أن ضرورات الإنتاج الرأسمالي ستدفع بالرأسماليين للذهاب إلى كل مكان، وأن يؤسسوا التجارة في كل مكان، ما حدا ب Paul Lewis بول لويس أن يكتب في ال”نيويورك تايمز” بتاريخ 27 يونيو/ حزيران 1998 “عندما يزور القراء (المانيفستو الشيوعي) في عامه الخامس بعد المائة، يفاجأ القراء سواءٌ كانت ميولهم نحو اليمين أم اليسار بدقة تعريف كارل ماركس للاقتصاد العالمي هذه الأيام”. يبدو أن ماركس عرف الداء لكنه لم يعرف الدواء.
كان الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية في أوروبا ناتجاً عن تغيرات إيديولوجية وتكنولوجية. كانت الثورة البروتستانتية، أو ما أسماه البعض “عصر التنوير” هو الغطاء الإيديولوجي الذي حلل الربا، والذي حرمته الشرائع الدينية كافة من الإسلام إلى المسيحية وحتى اليهودية، التي سمحت به فقط على الغوييم من غير اليهود وحرمتهُ بين اليهود أنفسهم.
أما الاختراعات التكنولوجية فكانت استعمال البخار في الصناعة، والقطار، ومحرك الاحتراق الداخلي، والكهرباء، والطاقة النووية وأخيراً الذكاء الاصطناعي والكمبيوتر. نتج عن هذه الاختراعات تطوير الأسواق من محلية إلى إقليمية إلى قومية ثم إلى عالمية، فتم تركيب مبادئ الرأسمالية على أدوات العولمة هذه، مما نتج عن ذلك ما أسلفنا من نتائج هي من طبيعة ذلك النظام من الإنتاج الكمي، ومن حروب واضطرابات ومصائب، فتقدم الوسائل وقوتها جعل من كل حرب أشرس مما قبلها، ومن كل كارثة اقتصادية أشد ضراوة وقسوة من سابقاتها، ومع أن كلمات العولمة قد كثر استعمالها مؤخراً إلا أنها كانت تتطور مع الزمن ابتداء من طريق الحرير وحتى اليوم. لقد ترجم المسلمون علوم وفلسفة اليونان والرومان وأضافوا عليها كعلم الجبر، بل اختراع “الصفر”، ومن دونه فإن علوم الكمبيوتر والتي تعتمد عليه ما كان لها أن تنطلق وتطلق عصر معلوماتنا هذا. كما ترجم الأوروبيون أعمال المسلمين العلمية والأدبية وأضافوا عليها.
كانت سرعة الحركة والانتقال وسرعة تطور العولمة تتطوران تطوراً طردياً. فحتى القرن التاسع عشر كان الحصان هو السرعة القصوى للانتقال، إلى أن جاء القطار فأصبحت سرعته تصل إلى 150 كيلومتراً في الساعة، ثم السيارات فالطائرات والصواريخ. وكان إنتاج النفط بكميات كبيرة وبوسائل حديثة سنة 1859 نقطة حاسمة، بحيث يمكن الادعاء أننا في آخر سنوات القرن التاسع عشر وحتى اليوم نعيش ما يمكن تسميته عصر النفط، وبعد انطلاق الثورة الصناعية أصبح من يسميهم المؤرخون الأمريكيون أنفسهم بالبارونات اللصوص، خلفاً لبارونات الإقطاع، وأصبح هؤلاء هم عماد النظام الرأسمالي الصناعي، فالرأسمالية قد اشتقت اسمها من الرأسمال وسُخر النظام كله لخدمة رأس المال وأصحابه.
برنارد مادوف هو ابن وول ستريت البار. أسس سنة 1960 شركة برنارد مادوف للاستثمار عندما كان في الثانية والعشرين من عمره وكان رأسماله حينئذٍ 5000 دولار. بقي مادوف رئيس مجلس إدارة هذه الشركة حتى 11 ديسمبر 2008 حينما ذهب وأخبر أولي الأمر أن شركته كانت تمارس الخداع والغش والكذب خلال سنوات عملها، وكان قد أخبر بعض مديريه الشيء نفسه قبل يوم من افصاحه عن سوء أمره قائلاً : “كان الأمر كله كذبة كبرى”. وصل مادوف إلى أعلى المراكز في وول ستريت بما في ذلك رئاسة مجلس إدارة ناسداك Nasdaq أهم سوق مالي لشركات التكنولوجيا في العالم لعدة سنوات. كان لآخر أيامه ممن يسمون في وول ستريت “صناع السوق”. (خسائر) مادوف كانت 50 مليار دولار أي 000.000.000.50 دولار عداً ونقداً !!!... وما كادت الفضيحة أن تنكشف حتى أفصحت العديد من البنوك العالمية داخل الولايات المتحدة وخارجها في بريطانيا، وإسبانيا، وفرنسا، وايطاليا وهولندا وغيرها انها قد أصابتها خسائر جسيمة لأنها كانت تستثمر مع مادوف. كان مادوف، حسب صحافة وإعلام وول ستريت رجلاً تقياً نقياً طاهراً ورعاً، حيث أنه كان يكثر أعمال الخير خصوصاً للمؤسسات اليهودية و”اسرائيل”.... بل وكان في مجلس امناء إحدى الجامعات اليهودية.
حسب ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية AFP في 18/12/2008 فلقد ظهر على الإنترنت طوفان من الرسائل “المعادية للسامية” (وهنا نضع معادية السامية بين قوسين). قالت وكالة الأنباء هذه بأن “مادوف، ذا السبعين عاماً، يهودي الديانة، وعضو بارز في الجالية اليهودية الأمريكية ذات النفوذ القوي”. ثم تقتبس الوكالة ما قالته “رابطة الدفاع ضد التمييز” اليهودية ADF عن هذا الموضوع : “قام البعض بكتابة تعليقات بالغة الإهانة عن علاقة اليهود والمال حتى أن بعضهم قال إنه لا يستطيع أحد القيام بعملية غش كهذه إلاّ اليهود كما أن آخرين ادعوا (في نظريات مؤامرة) بأن سرقات اليهود هذه انما هي لمساعدة “إسرائيل””. واستطرد الناطق باسم رابطة ADL أنه حتى بعض الجرائد، وليس مواقع الإنترنت فقط، كانت من اولئك الذين انضموا إلى تلك الحملة ومنهم نيويورك بوست، ومجلة “فوربس”. لكن الغريب أن مواقع جريدة “هآرتس” و”الجيروسالم بوست” كانا ضمن تلك المواقع التي ورد فيها مثل هذه الاتهامات “اللاسامية”. إذن مهاجمة الغش والخداع والسرقة هي (لا سامية) و(نظرية مؤامرة) حتى ولو كان على موقع جريدة “إسرائيلية”! أليس هذا هو الابتزاز بعينه؟؟
بينا في هذا الكتاب أن ممارسات أسواق المال منذ كانت هناك أسواق مال هي نفسها، جديدها قديم، وقديمها جديد. بينّا أن الفقاعات الاقتصادية كانت تُمارس حتى قبل 300 سنة، حيث بينا فقاعة شركة بحر الجنوب سنة 1720 والتي يُظّن أنها قد حدثت بالأمس. حتى أن ممارسات مادوف ما هي إلا نسخة طبق الأصل عن ممارسات تشارلز بونزي Charles Ponzi في العشرينات من القرن الماضي.
بدأ بونزي فقيراً معدماً كما كان الحال مع مادوف، إلى أن عمل مع أحد أصحاب البنوك “الفاسدين” في كندا حيث تَعلّم منه آخر علوم النصب، والنصب هو أحد علوم مهنة أسواق المال وأصحابها التي ورثوها أباً عن جد على مدى التاريخ. ما تعلمه هو ما يسمى Pyramid Scams وملخصها الدفع للمستثمرين القدامى من أموال المستثمرين الجدد بناء على مشاريع وهمية. ووَعَد بونزي بدفع فائدة 50% على أي مبلغ استثمار لمدة 90 يوماً فقط. خلال سبعة شهور جمع 30000 مستثمر دفعوا 9 ملايين دولار وهو مبلغ ضخم في تلك الأيام. ذاع صيته في كل مكان. وبعد أن بدأ عملية احتياله وبجيبه دولاران فقط، امتلك قصراً وسيارات فارهة إلى أن تم اكتشاف أمره بعد أن كان ما كان! وهذا ما قام به مادوف... بل هذا ما تقوم به شركات المال وباروناتها العالميون.
إذا كانت أخلاقيات نظام السوق الرأسمالي تسمح ببيع السلع والسياسيين واقتراف الجريمة باعتبارها عمليات سوق لا تخضع لمعايير أخلاقيه، فدعنا نرَ كيف ينطبق ذلك على بيئة شيكاغو وحزبها الديمقراطي الذي أوصلت ماكنته السياسية باراك اوباما إلى أعلى مناصب الدولة.
يقول ديك سمبسون Dick Simpson أستاذ العلوم السياسية بجامعة إلينوي في شيكاغو إن أكثر من ألف شخص قد تم ادانتهم على خلفية جرائم سياسية اقترفت منذ السبعينات من القرن الماضي كان منهم ثلاثون ممن وصلوا إلى مراكزهم عبر صناديق الاقتراع إلى مناصب عامة ومهمة. كان آخر هؤلاء حاكم ولاية إلينوي الحالي (بلاغوجيفيتش Blagojevitch) والذي تم اعتقاله واطلاق سراحه بكفالة في 9/12/2008. وهذا ما نقلته وكالة الأسوشيتيد برس في 24/12/2008: “أوقف بلاغوجيفيتش في التاسع من كانون الأول وأفرج عنه بكفالة. وكشفت نصوص الاتصالات الهاتفية التي نشرها مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي) أنه حاول بيع مقعد سناتور إيلينوي الذي بقي شاغراً بعد انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة. وكشف التنصت على مكالمات حاكم إيلينوي أنه كان غاضباً لأن فريق أوباما لم يقدم له سوى التقدير مقابل تعيين هذه الشخصية أو تلك... ويعود إلى حكام الولايات المتحدة تعيين أعضاء مجلس الشيوخ الذين تصبح مقاعدهم شاغرة، بانتظار الانتخابات المقبلة لمجلس الشيوخ بعد سنتين.
ويُمكن أن يحكم بالسجن على بلاغوجيفيتش المتهم بالاحتيال والفساد والذي يخضع لتحقيق حول قضية أخرى مما يفسر تمكن مكتب التحقيقات الفدرالي من التنصت على اتصالاته بإذن من القضاء”.
إذن، منصب أوباما السابق والذي وصل إليه أوباما عبر ماكينة الحزب الديمقراطي السياسية والتي أوصلت أوباما إلى البيت الأبيض هو الآن معروض للبيع... عدّاً ونقداً، كما بينته تسجيلات مكتب التحقيقات الفدرالي، ولكن أليست هذه حالة فريدة أردنا أن نعمل بها “من الحبة قبّة”؟ يقول البروفيسور سيمبسون إنه حين إدانة الحاكم الحالي ودخوله السجن سيكون أربعة من أصل آخر ثمانية حكام لهذه الولاية قد دخلوا السجن على خلفية الفساد والاختلاس والابتزاز... أربعة من ثمانية تعني 50% - أي النصف. لكن لماذا علينا نحن “أصحاب نظريات المؤامرة” أن ننظر إلى نصف الكوب الفارغ، فهناك نصف ملآن؟ ثم تفاءلوا بالخير تجدوه عند أوباما... وإلاّ فالذي بعده أو الذي بعد الذي بعده ! أوليس من الأفضل أن نحمد الله كثيراً أن بلاغوجيفيتش لم يكن هو الذي وصل إلى الرئاسة الأمريكية؟ لكن هل كان ذلك ممكنا؟
نطالب بالرأفة ل بلاغوجيفيتش، فهو قد لعب ضمن قواعد اللعبة في الرأسمالية الأمريكية كما وصفها الأستاذ ليستر ثورو وكما وصفتها ال “نيوزويك”، لكنه لسوء حظه قد انكشف أمره.
المحزن أن خسائر الدول العربية وخصوصاً الصناديق السيادية لدول النفط العربية قدرت بحوالي 2600 مليار دولار من جامعة الدول العربية، وهو مبلغ يزيد مرة ونصف المرة على جميع موجودات البنوك العربية مجتمعة من المحيط إلى الخليج، بل ويزيد على مجموع الدخل القومي السنوي للدول العربية مجتمعة من المحيط إلى الخليج، بما في ذلك الموارد من النفط والغاز. أما ما قدرته الأمم المتحدة من الخسائر العربية حتى منتصف ديسمبر / كانون الأول 2008 فكان 650 مليار دولار، خمسة في المائة من هذه الخسائر لو تم استثمارها في الزراعة في بلد كالسودان، لأصبح سلة غذاء للعالم العربي بأجمعه، أو 10% من هذه الخسارة كان يمكن أن يقيم قاعدة صناعية حقيقية في هذا البلد العربي أو ذاك. بل كان يمكن بأقل من عشرين في المائة من هذه الخسائر أن تقوم بسداد كافة الديون عن الدول العربية. هذه الخسائر في وقت تعاني شعوب منطقتنا من الجهالة والفقر وفي وقت سيدخل فيه سوق العمالة العربي 80 مليون طالب عمل جديد خلال السنوات العشر المقبلة.
أخو نابليون كتب إلى أخيه ناصحاً: حذار إذا جاعت الجماهير ! سؤالنا : لماذا على دول النفط أن تنتج من النفط أكثر من احتياجاتها للتنمية فتحول هذه المادة الثمينة من كنز ترتفع أسعاره مع الأيام باقياً آمناً تحت أراضيها، إلى أوراق كسندات خزانة في أمريكا أو كاستثمارات عند مادوف ومن على شاكلته؟ ولماذا لا تستثمر هذه الفوائض في بلدانها و/ أو بلدان أشقائها لتصبح ثروة حقيقية منتجة لا أوراق تتآكل لألف سبب وسبب؟ أم أن سؤالنا قد أخطأ العنوان؟ فالجواب في مكان آخر... هناك...!.
ما قاله مادوف عن شركته “كان الأمر كله كذبة كبرى” يمكننا قوله عن النظام كله.
الإصلاح في عالمنا العربي
ليست المشكلة بالآخرين وحدهم، فنحن ما بين فئة قليلة تطابقت مصالحها مع من هم خارج أوطانها أو ممن شغفهم الغرب حباً، وهؤلاء قال عنهم ابن خلدون قبل بضع مئات من السنين بأن “عبودية العقل هي أقسى أنواع العبوديات”، وبين فئة جمدت حضارتنا العظيمة في ثلاجة الزمن البعيد، دون الأخذ بأدوات التحديث والعصر في حضارة حثت على الأخذ بالعلم حتى ولو في الصين.
هل هناك شرق أوسط جديد؟ الجواب نعم، هناك طفل قد يكون اسمه الشرق الأوسط الجديد وقد لا يكون ! وهو - كما قالت عنه كوندوليزا رايس - في مخاض آلام الولادة. هو لن يكون بمواصفات رايس أو شمعون بيريز. لا أدري مَنْ غيرُ الله يدري كيف سيكون هذا الوليد لأنه من أطفال الأنابيب، وهو قادم من رحم قانون “العواقب غير المحسوبة The Law of Unanticipated consequences لا من واشنطن ولا من أحبائها.
ليس للأباطرة أصدقاء ولا صداقات. مات ماركوس في منفاه، وضاقت الأرض بما رحبت لقبرٍ يوارى به جثمان شاه إيران. جندت الولايات المتحدة ألوف المتطوعين البسطاء ليجاهدوا معها ضد الكفار السوفييت في أفغانستان. وبعد أن قضي الأمر، أين أصبح هؤلاء؟ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر في غوانتانامو! ثم أين هو سوهارتو؟ وأما مانويل نورييغا فلقد بدأ حياته مخبراً ثم عميلاً من الدرجة الممتازة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، حيث أوصلته إلى حكم جمهورية بنما. أما اليوم فهو السجين رقم 41586 في أحد سجون ميامي الفيدرالية بولاية فلوريدا”.
الحلقة الثانية
مع أن الناس قد أصبحوا واعين لظاهرة ما أسموه بالعولمة في الربع الأخير من القرن العشرين، إلا أن ذلك كان نتيجة السرعة التي طرأت على عملية وديناميكية العولمة، والتي تسارعت نتيجة تسارع الاكتشافات التكنولوجية في الفضاء، والاتصالات، وتقنية المعلومات. ولقد كانت عملية العولمة بطيئة، تكاد تكون بشكل غير محسوس، إلا أن تسارع الأحداث والاكتشافات قد جعلت ملاحظتها أمراً لا يمكن تجنب رؤيته أو ملاحظة تأثيراته، لأنها قد أصابت دروب الحياة كافة. وما ندعيه هنا أن عملية العولمة كانت عملية تتطور ببطء على مدى التاريخ إلا أنها أخذت وتيرة ثورية في العقود القليلة الماضية.
إن عملية العولمة هي تطور طبيعي، اللهم إلا أن الاختلاف هو في النظم التي تتحكم بها. فهي مثل جهاز الكمبيوتر، المهم ما هو النظام Soft Ware الذي يتم تشغيله على هذا الجهاز. وكما يقال عن الكمبيوتر Garbage in، Garbage out ، أي إذا كانت المدخلات خاطئة، فكذلك ستكون النتائج. وإن مدخلات عولمة الرأسمالية التي تعتمد على الجشع والكذب والمادية المجردة والمضاربات والحروب لا يمكن لمخرجاتها إلا أن تكون ما نرى عالمنا عليه أيامنا هذه.
قبل أكثر من مائة وخمسين سنة، وتحديداً في سنة 1848 نظّر كارل ماركس أن ضرورات الإنتاج الرأسمالي ستدفع بالرأسماليين للذهاب إلى كل مكان، وأن يؤسسوا التجارة في كل مكان، ما حدا ب Paul Lewis بول لويس أن يكتب في ال”نيويورك تايمز” بتاريخ 27 يونيو/ حزيران 1998 “عندما يزور القراء (المانيفستو الشيوعي) في عامه الخامس بعد المائة، يفاجأ القراء سواءٌ كانت ميولهم نحو اليمين أم اليسار بدقة تعريف كارل ماركس للاقتصاد العالمي هذه الأيام”. يبدو أن ماركس عرف الداء لكنه لم يعرف الدواء.
كان الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية في أوروبا ناتجاً عن تغيرات إيديولوجية وتكنولوجية. كانت الثورة البروتستانتية، أو ما أسماه البعض “عصر التنوير” هو الغطاء الإيديولوجي الذي حلل الربا، والذي حرمته الشرائع الدينية كافة من الإسلام إلى المسيحية وحتى اليهودية، التي سمحت به فقط على الغوييم من غير اليهود وحرمتهُ بين اليهود أنفسهم.
أما الاختراعات التكنولوجية فكانت استعمال البخار في الصناعة، والقطار، ومحرك الاحتراق الداخلي، والكهرباء، والطاقة النووية وأخيراً الذكاء الاصطناعي والكمبيوتر. نتج عن هذه الاختراعات تطوير الأسواق من محلية إلى إقليمية إلى قومية ثم إلى عالمية، فتم تركيب مبادئ الرأسمالية على أدوات العولمة هذه، مما نتج عن ذلك ما أسلفنا من نتائج هي من طبيعة ذلك النظام من الإنتاج الكمي، ومن حروب واضطرابات ومصائب، فتقدم الوسائل وقوتها جعل من كل حرب أشرس مما قبلها، ومن كل كارثة اقتصادية أشد ضراوة وقسوة من سابقاتها، ومع أن كلمات العولمة قد كثر استعمالها مؤخراً إلا أنها كانت تتطور مع الزمن ابتداء من طريق الحرير وحتى اليوم. لقد ترجم المسلمون علوم وفلسفة اليونان والرومان وأضافوا عليها كعلم الجبر، بل اختراع “الصفر”، ومن دونه فإن علوم الكمبيوتر والتي تعتمد عليه ما كان لها أن تنطلق وتطلق عصر معلوماتنا هذا. كما ترجم الأوروبيون أعمال المسلمين العلمية والأدبية وأضافوا عليها.
كانت سرعة الحركة والانتقال وسرعة تطور العولمة تتطوران تطوراً طردياً. فحتى القرن التاسع عشر كان الحصان هو السرعة القصوى للانتقال، إلى أن جاء القطار فأصبحت سرعته تصل إلى 150 كيلومتراً في الساعة، ثم السيارات فالطائرات والصواريخ. وكان إنتاج النفط بكميات كبيرة وبوسائل حديثة سنة 1859 نقطة حاسمة، بحيث يمكن الادعاء أننا في آخر سنوات القرن التاسع عشر وحتى اليوم نعيش ما يمكن تسميته عصر النفط، وبعد انطلاق الثورة الصناعية أصبح من يسميهم المؤرخون الأمريكيون أنفسهم بالبارونات اللصوص، خلفاً لبارونات الإقطاع، وأصبح هؤلاء هم عماد النظام الرأسمالي الصناعي، فالرأسمالية قد اشتقت اسمها من الرأسمال وسُخر النظام كله لخدمة رأس المال وأصحابه.
تعليقات
إرسال تعليق